الأهواز – مقال / بين فكَّي كماشة، وجد التونسيون أنفسهم منذ أيلول الماضي، تاريخ إصدار الرئيس قيس سعيد حزمة من المراسيم التي نصّبته «حاكماً بأمره» وألغت بقيّة السلطات.
وبعد الإعلان عن أنّ الحوار الوطني سينطلق خلال ساعات، يترقّب التونسيون صيغ هذه المبادرة وتفاصيلها وما يمكن أن تضيفه، باعتبار أن الرئيس عزلهم إلى مقاعد المشاهدين، حيث لن تكون لا للشارع ولا للمعارضة كلمة في تعديل صيغ الحوار أو نتائجه.
يمضي الرئيس التونسي، قيس سعيد، في تنفيذ مشروعه المبهم، من دون أن تكون لدى أيّ طرف داخلي أو خارجي، إلى الآن، القدرة على إيقافه. وفي استكمال للمسار الذي استغلّ فيه سعيد تململ التونسيين من مؤسّساتهم المفرَغة من معناها الديموقراطي الحقيقي، وبعد حلّه البرلمان ورفعه الحصانة عن أعضائه وتدخّله في القضاء، بدأ إرساء أسس الهيئة الانتخابية والدستور، من دون أن يحتاج في ذلك إلى منْح نفسه صلاحيات إضافية. إذ إن ثلاثة برلمانات متتالية ماطلت في إرساء المحكمة الدستورية حتى لا تُستغلّ ضدّ حركة «النهضة» وحلفائها الذين امتلكوا الأغلبية لعشر سنوات، وهو عيْن ما اتّكأ عليه سعيد ليؤوّل الدستور على هواه، مستنداً إلى كوْنه أستاذ قانون دستوري لطالما تمّت استشارته في الشؤون الدستورية قبل كتابة الدستور وبعده.
انطلاقاً ممّا تَقدّم، بدأ سعيد العمل على تغيير النظام الانتخابي وهيئة الانتخابات، التي لم تَعُد تحظى بالدعم الشعبي الذي لاقته عام 2011. ذلك أنه منذ عام 2017، نشبت خلافات بين أعضائها ورئيسها شفيق صرصار، أدّت إلى خروج هذا الأخير إلى الإعلام، وفضْحه تدخّل الأحزاب في عمل الهيئة، وتحديداً من خلال الأعضاء الجدد الذين اختارهم البرلمان. وانتهى الجدال آنذاك باستقالة صرصار، وتجاهُل البرلمان لتحذيراته. إلّا أنّ فضائح الهيئة تواصَلت مع استقالة رئيسها الثاني، محمد التليلي المنصري، من منصبه، واستمراره عضواً فيها، ثمّ اتّهام الأعضاء الرئيس الجديد، نبيل بفون، بتسريب السجلّ الانتخابي والتنسيق مع «النهضة» من أجل الحصول على منصب سفير عقب إنهاء مهامه بعد انتخابات 2019. ولم تُنسَ، بعد، تسريبات المكالمات بين مسؤولي الهيئة والأحزاب، لإعلام الأخيرة بأماكن تواجد المراقبين، وتجاهل الأولى خطاب «هيئة الإعلام السمعي والبصري» المُخوَّلة قانوناً برصد الخروقات الانتخابية، والتي وضعت قائمة للمترشحّين الذين استغلّوا وسائل الإعلام الخاصّة بهم للدعاية السياسية رغم منع ذلك قانوناً. وبينما انتظرت «هيئة الإعلام» أن يجري إسقاط هؤلاء، فوجئت بتعنّت «هيئة الانتخابات» وإصدارها أحكاماً لفائدة المخالفين. أمّا بعد انتهاء الانتخابات، فقد كان متوقَّعاً مكافأة بفون بتعيينه سفيراً مفوّضاً في دولة أوروبية، ولكن ملفّ السفراء أضحى بيد سعيد بعد تقلّده رئاسة البلاد وإدارته ملفّ السياسة الخارجية، ما حال دون تمكّن الأحزاب من الإيفاء بوعدها، ودفَعها إلى إبقاء بفون رئيساً للهيئة سنة كاملة بعد انتهاء عهده قانوناً – إلى غاية حلّها من قِبَل سعيد -، على الرغم من معارضة منظّمات المجتمع المدني هذا القرار، الذي يُعرّض جميع قرارات الهيئة للبطلان قانوناً.
أكد «الاتحاد العام التونسي للشغل» أنه لن يشارك في أيّ حوار صُوري
إلّا أنه، وعلى رغم أن كثيرين لم يجدوا سبباً للدفاع عن هيئة نخرها الفساد وفقدت نزاهتها، بعدما بادر سعيد إلى تعيين أخرى جديدة بدلاً منها، لم يستطيعوا هضْم قرار الرئيس الذي جاء من دون حوار أو حتى إشراك للمجتمع المدني، الذي يطالب بأن يكون له دور في القرارات المصيرية، ولا يبدي تمسّكاً بعودة الأحزاب إلى سالف نشاطها. وبعد إعلان سعيد قراره، تعالت الأصوات المتّهِمة إيّاه بتشكيل هيئة على مزاجه بهدف تزوير الانتخابات لصالحه، في وقت واصلت فيه المعارضة المكوَّنة من «النهضة» وحلفائها السابقين في الحُكم، تحرّكاتها من أجل توسيع الجبهة الجديدة التي شكّلتها ضدّ سعيد، بقيادة وجه مغاير بدلاً من زعيم «النهضة»، راشد الغنوشي. وبدا رئيس «جبهة الإنقاذ» المعارضة، أحمد نجيب الشابي، في تصريحاته الأخيرة، في مسعى لخلق خطّ مباشر من الأحداث بينه وبين سعيد، مستغلّاً تشنّج هذا الأخير واستهدافه الأوّل بتلميح في إحدى كلماته. وإن كانت مصداقية الشابي وشعبيّته محلّ تشكيك أيضاً، إلّا أن ذلك لا يمنع من بداية تشكُّل كتلة حوله.
ولكن الملفت للانتباه خلال التحرّكات الأخيرة، سواءً من قِبَل المعارضة أو أنصار الرئيس، هو الرفض الشعبي للانخراط في هذه الدائرة المفرغة. فكما كانت مسيرات «النهضة» ضعيفة في الآونة الأخيرة، جاءت مسيرة مؤيّدي سعيد، السبت الماضي، صادمة من حيث عدد الحضور الذي لم يتجاوز بضع مئات. ويكشف ذلك بوضوح أن الإنهاك الذي يتعرّض له التونسيون منذ عشر سنوات، اقتصادياً واجتماعياً، والإحباط من الديموقراطية الشكلية، كما من عودة مزايا الحُكم الفردي التي يظنّ الكثيرون أنها ولّت مع انهيار نظام زين العابدين بن علي، جعلا التونسيين يهجرون الشوارع، إلى حين يبدو أنه لن يطول قبل قيام انتفاضة شعبية جديدة إذا ما تواصَل المستوى المعيشي في هذا السقوط الحرّ. وبالتجاهل واللامبالاة نفسيهما أيضاً، واجه التونسيون دعوات سعيد إلى حوار وطني وفق معايير مبهمة وغير مفهومة، وسط تساؤلات عن هويّة «الصادقين» الذين يتحدّث عنهم، ومن يُمنحون صكّ الوطنية على حساب الآخرين. وإن احتفت بمشروع الحوار «عمادة المحامين» و«منظّمة المرأة»، إلّا أن تلك الدعوات واجهت مسبقاً «فيتو» من «الاتحاد العام التونسي للشغل»، الذي أعلن أمينه العام، نور الدين الطبوبي، أنه لن يشارك في أيّ حوار صُوري غير مهيكل أو ممنهج.
بدون دیدگاه